‫الرئيسية‬ مقالات *الجنوب… الأرض التي لا تموت
مقالات - 2025-10-17

*الجنوب… الأرض التي لا تموت

الموجز- كتب: عبدالإله الشرجبي

من يظن أن حرب صيف 1994 قد انتهت، وأن رائحة الدم التي غمرت سماء الجنوب قد تلاشت مع وقع البنادق، يغالط التاريخ ويخون الجغرافيا ويعمى عن حقيقةٍ ماثلة كالشمس في رابعة النهار. فالجنوب منذ تلك الحرب الدامية يعيش معركة لم تُرفع عنها الرايات السوداء بعد؛ معركة تتجدد أشكالها وأدواتها، لكنها تحمل الجوهر نفسه: الاستباحة باسم الله، وباسم العروبة، وباسم الإسلام.

لقد كان الجنوب، منذ اللحظة الأولى لانكسار بندقيته، غنيمة حرب لا وطناً؛ غنيمة يقتسمها تجار الشعارات وزبانية السلطة ومؤدلجو الفكر الذين جعلوا من الدين مطية، ومن الوطنية سلعة، ومن الإنسان رقماً يضاف إلى دفاتر التبعية والخضوع. لم يكن الأمر مجرد صراع سياسي أو نزاع على السلطة، بل كان مشروع إذلالٍ ممنهج، وتجريفٍ لثروات الجنوب وخيراته حتى صار الأمر عند العامة “طبيعيًا”، كأنه قدرٌ محتوم أو لعنة أبدية.

وما يحدث للجنوب لم يكن سوى صورة من صور “فلسفة الاستباحة” التي يكررها التاريخ كلما سقطت القيم وانتصرت الأيديولوجيا. فالمؤدلجون – باسم العقيدة – يرون أن خصومهم لا يستحقون حق الحياة، وأن الاختلاف جريمة، وأن التباين في الرؤية نقيصة، وأن من لا يركع في محرابهم فهو عدو لله ولرسوله وللأمة. وهكذا أُشعلت حرب الأمس تحت شعار مواجهة “الشيوعية”، وتُحضَّر حرب الغد تحت لافتة “التطبيع والصهيونية”.

إنها ذات اللعبة، بوجوه متغيرة وأقنعة مختلفة، لعبة الكيل بالتهم وتوزيع صكوك الوطنية والخيانة كأنهم أوصياء على الضمائر. فمن لم ينحنِ لعصاهم السحرية ويدخل في جُبتهم سيُعلَّق على مشانق الإعلام الحزبي وتُطلق عليه نيران التخوين والتكفير. واليوم، ما زالوا يمارسون ذات الحيلة، يستغلون غليان الشارع العربي والإسلامي إزاء ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة وتنكيل على يد الصهيونية العالمية، ويوظفون ذلك كوقود لإذكاء خصومة أبدية ضد أبناء الجنوب. وكأنهم وجدوا في دماء الفلسطينيين غطاءً يمررون به مخططاتهم العدائية ضد الأرض والإنسان في الجنوب، في عملية مقايضة رخيصة بين مأساة هناك ومشروع استباحة هنا.

لقد عاش أبناء الجنوب عقودًا من القهر، ليس قهر السلاح وحده، بل قهر الإقصاء والتهميش، قهر أن ترى ثرواتك تُنهب أمام عينيك ثم تُرمى لك الفتات باسم “الوحدة”، وقهر أن يُسلب صوتك وتُغتال هويتك وتُعاد صياغتك قسرًا في قوالب غريبة عنك. هذا القهر لم يترك للجنوب إلا أن يعيش في حالة مقاومة داخلية، مقاومة تارةً بالصمت، وتارةً بالرفض، وتارةً بالتمسك بالذاكرة التي أرادوا اغتيالها. إن هذا القهر المستمر هو ما جعل الجرح مفتوحًا، والمعركة متقدة، والذاكرة لا تهدأ.

وليس سرًا أن مشروع استباحة الجنوب لم يكن مشروعًا محليًا صرفًا، بل كان وما يزال جزءًا من شبكة إقليمية ودولية، تجد في الجنوب بوابة للهيمنة على بحر العرب وخطوط الملاحة وممرات النفط. فالجنوب ليس مجرد قطعة أرض؛ إنه موقع استراتيجي تتصارع حوله القوى الكبرى منذ عقود طويلة. ولهذا لم يكن غريبًا أن يُترك الجنوب في دوامة الفوضى والتجريف والنهب، حتى يغدو عاجزًا عن النهوض، وحتى يتحول إنسانه إلى مجرد تابع أو وقود لحروب الآخرين.

ولعل التاريخ خير شاهد على ذلك. فقد حاولت القوى الكبرى قديمًا احتلال عدن، فكانت عصية عليهم، منيعةً بصلابتها وبأهلها. وحين شنّ حاكم الهند البرتغالي ألفونسو دي ألبوكيرك حملة فاشلة للاستيلاء على المدينة في 26 مارس 1513م، انتهت الحملة بهزيمة نكراء للبرتغاليين خلال أربع ساعات من القتال. كان هدفهم السيطرة على عدن، لكنهم اصطدموا بجدار الإرادة الجنوبية. وحتى العثمانيين الذين سيطروا على عدن لفترة، خرجوا منها يجرون أذيال الفشل.

ثم جاء الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدر الجنوب أكثر من 129 عامًا، ظنًا منه أنه قادر على تدجين الإرادة الجنوبية كما دجّن غيرها من الشعوب. لكن الجنوب، كعادته، لم يسكت. فمنذ اللحظة الأولى لوصول البريطانيين إلى عدن في 1839، بدأت شرارات المقاومة تتشكل في أذهان الأحرار، وامتدت لاحقًا لتتحول إلى نضال شعبي منظم، بلغ ذروته بثورة 14 أكتوبر 1963، التي أطلقها أبطال الجبال والسهول من ردفان الأبية، بقيادة الشهيد راجح بن غالب لبوزة، لتكون الشرارة التي أجّجت نار التحرر في كامل تراب الجنوب. لقد سطّر أبناء الجنوب ملاحم من البطولة ضد المستعمر البريطاني، وقدموا قوافل الشهداء، حتى تحقق النصر العظيم في 30 نوفمبر 1967، يوم رحل آخر جندي بريطاني من عدن. ذلك النصر لم يكن حدثًا عابرًا، بل تتويجًا لنضال طويل، وتجسيدًا لإرادة شعب يرفض الخضوع، ويصنع تاريخه بدمه، لا بأقلام الآخرين.

واليوم، ونحن على أعتاب مرحلة مفصلية، تتهيأ القوى ذاتها التي أشعلت وقود الحرب بالأمس لإشعال وقودها من جديد. لكن هذه المرة، بدل أن يكون الشيطان هو “الشيوعية”، صار الشيطان الجديد هو “التطبيع والصهيونية”. الهدف واحد: إخضاع الجنوب، وتدجين صوته، وإبقاءه تحت رحمة مركز يصرّ أن يكون سيدًا لا شريكًا. إنها سياسة تدوير الأقنعة: يبدّلون العناوين ويبقون على الجوهر ذاته.

إن الجنوب، في عمقه الفلسفي، ليس مجرد جغرافيا مرسومة على الخريطة. إنه كينونة، ذاكرة، هوية، وكرامة. ومن يظن أن كرامة شعب يمكن أن تُسحق بالقوة العسكرية أو الإعلامية، لم يقرأ في كتب الفلسفة ولم يتأمل في نواميس التاريخ. فالشعوب التي تُقهر طويلًا تتحول في لحظة ما إلى بركانٍ لا يوقفه رصاص ولا يُخمده خطاب. والتاريخ مليء بشواهد الأمم التي ظُنّ أنها انتهت، لكنها خرجت من الرماد أكثر صلابة، وأشد حضورًا.

قد يظن خصوم الجنوب أن المعركة الثانية سهلة المنال، وأن بإمكانهم إعادة تدوير ذات المسرحية القديمة. لكن التاريخ ليس أحمق لدرجة أن يسمح لهم بتكرار الأكذوبة مرتين بالسيناريو نفسه. لقد وعى أبناء الجنوب الدرس، وأدركوا أن الاستباحة ليست قدَرًا، بل اختيارًا يفرضه الصمت والخضوع. ولعل اللحظة القادمة ستكون لحظة انبعاثٍ من تحت الركام، ينهض فيها الجنوب لا كضحية تُستباح، بل كصوتٍ يفرض وجوده في معادلة التاريخ والجغرافيا.

فالجنوب ليس فرعًا تابعًا، ولا غنيمة حرب، بل روح أمةٍ تأبى إلا أن تكون حرّة. روحٌ تسكنها إرادة البقاء، وإصرارٌ على أن تكتب ذاتها بمداد الدم والكرامة، لا بأحبار التبعية والانكسار. وإذا كان التاريخ قد كُتب مرة على حساب الجنوب، فإن الجنوب اليوم يستعد ليكتب تاريخه بيده، وليقول كلمته الأخيرة في وجه كل من أراد له أن يكون مجرد هامشٍ في كتاب الآخرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

باعوم .. عودة الرمز لا الحدث ::

الموجز – خاص – أ ماهر باوزير نشرنا قبل أكثر من أسبوعين خبراً حول العودة القريب…