في حضرة الظلام: الإرهاب كتجربة وجودية.
الموجز – كتب:عبدالاله الشرجبي
في لحظةٍ كثيفةٍ من الظلام والظلم والطغيان ، يولد الإرهاب كصرخة ضد العالم، ضد المعنى، ضد الإنسان ،ضد السلام ،ضد الإنسانية.
. إنه ليس مجرد فعل دموي تتناقله شاشات الأخبار،
بل حالة فكرية ووجودية معقدة تتجلى حين يفقد الإنسان صلته بالرحمة، وعلاقته بربه ودينه ، وعقيدته
وتضيع حدود العقل والحكمة ، وتنهار القدرة على رؤية الآخر ككائنٍ له حق في الحياة. الإرهاب ليس استثناءً عن الطبيعة البشرية، بل هو جزءٌ منها حين تختل موازين الوعي والضمير. إنه الوجه المظلم للإنسان حين يُدفع إلى أقصى حواف اليأس أو الإيمان المتعصّب.
ما الذي يجعل الإنسان يتحوّل إلى أداة قتل؟ ما الذي يجعل فكرةً ما أقدس من الحياة نفسها؟ لماذا يختار بعض الناس هذا الطريق المظلم الشاق ، ويأخذوا معهم أرواحًا بريئة؟ ليست الإجابة سطحية، ولا يمكن ردّها إلى الجنون الفردي أو الحقد العابر. إنها أعمق من ذلك. الإرهاب هو لحظة انكسار فلسفي قبل أن يكون انحرافًا أمنيًا. هو إعلان موت المعنى، وتحوّل العقيدة إلى قيد . و خلف كل عملية إرهابية قصة طويلة من الألم والمعاناة ،
من الشعور بالخذلان، من العزلة، من خيانة الأمل. لكن هذه القصص لا تبرر العنف، بل تساعد على فهمه.
لو عدنا إلى الوراء، في الزمن، نجد أن الإرهاب ليس ظاهرة حديثة. لطالما استخدم الإنسان العنف لتحقيق أهدافٍ عُليا في نظره. من اغتيالات الحشاشين في العصور الإسلامية الوسطى، إلى الثورات الدموية التي سعت إلى إقامة العدالة من خلال الحديد والنار، إلى الجماعات التي تُقدّم نفسها كحماة للإيمان والدين والعقيدة وهم يغمسون سكاكينهم في رقاب الأبرياء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
التاريخ مليء بهذه المفارقات، حيث تُقدَّم الوحشية باسم الحق، ويُسوَّق القتل كطريقٍ للخلاص والنجاة إلى بر الأمان .
لكن الإرهاب الحديث يختلف من حيث تعقيده وامتداده. إنه يلبس أقنعة متعددة: دينية، سياسية، قومية، أيديولوجية. وقد ساهمت تحوّلات العالم الحديث، من الاستعمار وما خلفه من شروخ، إلى الأنظمة القمعية، إلى التفكك المجتمعي، إلى العولمة غير العادلة، في خلق بيئات مشبعة بالمرارة. في هذه البيئات، تنمو بذور التطرف بسهولة. عندما يشعر الإنسان أن لا مكان له في العالم، حين يُعامل كغريب، كمهمّش، كعدوّ في وطنه أو خارجه، تبدأ الأسئلة المؤلمة بالتكاثر داخله: من أنا؟ ما الذي أستحقه؟ لماذا لا أُعامل بكرامة؟ وعندما لا يجد أجوبةً، قد يجد في خطابٍ متطرّف إجابة مُريحة، لكنها قاتلة.
يُقدّم الفكر المتطرّف نفسه كجسرٍ نحو المعنى، كحلّ أخير للغضب، كطريقة للتكفير عن الشعور بالعجز. لكنه في حقيقته ليس إلا طريقًا إلى العدم. فالتطرف هو اختزالٌ للعالم في ثنائية قاتلة: نحن وهم، مؤمن وكافر، طاهر ونجس. وفي ظل هذه الثنائية، لا يعود للآخر أي قيمة، ويُصبح قتله “فضيلة”، وتدميره “عبادة”.
في عمق هذه الظاهرة، تبرز مسألة الظلام. الظلام هنا ليس ليلًا عابرًا، بل هو غياب النور الداخلي: نور العقل، نور التسامح، نور الوعي، نور السلام . حين يُطفئ المجتمع أنوار الفكر، ويمنع الأسئلة، ويكبت الاختلاف ، يفتح الباب أمام الظلام كي يزحف ببطء. الظلام لا يأتي مرة واحدة، بل يزحف، يدخل عبر الصمت، عبر التواطؤ، عبر الخوف من الحقيقة.
من المؤلم أن بعض المجتمعات قد ساهمت، عن قصد أو عن غير قصد، في ولادة هذا الظلام ،وهذا التطرف والإرهاب . حين يُهان الطفل نصنع منه إرهابا لايقف عند حد و حين يُمنع الشباب من الحلم ومواصله السير نحو التألق والنجاح يتحول إلى أيقونة كراهية ضد السلام والمحبة
، حين يتحول الدين إلى خطاب تدميري ، والسياسة إلى لعبة خيانة، والهوية إلى سلاح، يصبح التطرف نتيجة طبيعية، بل ومتوقعة.
من هنا، لا يمكن اختزال الإرهاب في كونه ظاهرة أمنية. إنه بالدرجة الأولى ظاهرة فكرية وروحية. لا يُهزم الإرهابي فقط في الجبهة، بل يُهزم قبل ذلك في المدرسة، في الكتاب، في الخطاب، في البيت. علينا أن نعود إلى الجذور، أن نعيد طرح الأسئلة القديمة: ماذا يعني أن تكون إنسانًا؟ كيف نعيش مع الآخر دون أن نلغيه؟ من يملك الحقيقة؟ وهل تستحق أي حقيقة أن تُسفك من أجلها الدماء؟
يجب أن نعلّم أبناءنا أن السؤال أهم من الجواب، وأن الإيمان لا يكون صادقًا إلا إذا وُلد من الحرية لا من الخوف. يجب أن نُعيد للفكر الديني إنسانيته، وأن نحرره من قبضة السياسيين والوعّاظ المتعصبين. لا يمكن مواجهة منطق التكفير إلا بمنطق التفكير، ولا يمكن دحض ثقافة الموت إلا بثقافة الحياة، والسلام والمحبة.
إن التطرف لا يُولد في الفقر فقط، بل في غياب العدالة. وهو لا يعيش فقط في الجهل، بل في القهر. وعلاجه لا يكون بالقمع فقط، بل بالحوار، بالتعليم، بالكرامة. الإرهابي لا يسقط من السماء، بل يُصنع بيننا، حين نغضّ الطرف عن الظلم، أو نصمت أمام التمييز، أو نُشارك – ولو بالصمت – في تجريم الاختلاف.
نحن نحتاج إلى ثورة روحية وفكرية، لا تدمّر، بل تُعيد البناء. ثورة تعيد للإنسان مكانته، وللحرية قداستها، وللحب معناه. نحتاج أن نُربّي أبناءنا على الشك الجميل، الذي يقود إلى الإيمان الحقيقي، لا إلى الجنون العقائدي. نحتاج أن نُحاصر الظلام، لا فقط بالكهرباء، بل بالكتب، بالمسرح، بالموسيقى، بالفلسفة، بكل ما يجعل الإنسان يشعر بأنه إنسان، لا مشروع قنبلة.
في نهاية المطاف، الإرهاب ليس موت الجسد فقط، بل هو موت الفكرة. والمجتمعات التي لا تدافع عن أفكارها، عن إنسانيتها، عن حريتها، ستظل تكرّر مآسيها. وحده النور قادر على تبديد الظلام، ووحده الإنسان القادر على التفكير، يمكنه أن يقول “لا” حين يدعوه أحدهم للقتل باسم الله، بأسم الفضيلة.
وحين نصل إلى تلك اللحظة، لحظة “لا”، نكون قد بدأنا فعلًا أولى خطوات الخروج من عصر الإرهاب… إلى عصر الإنسان.
فليكن واضحًا، إذن، أن الإرهاب ليس عدوًا خارجيًا فقط، بل هو شبحٌ يسكننا ما دمنا نترك الظلام يتسرّب إلى زوايا وعينا، ويُقيم فينا حين نهرب من مواجهة أسئلتنا الكبرى. إنه وجهنا الآخر حين نتخلّى عن التفكير، وعن الشك، وعن السلام ، وننحاز لليقين الأعمى الذي لا يرى في العالم إلا ثنائية العدو والصديق، الحق والباطل، النور والنار.
التطرّف لا يُولد في القلوب الممتلئة، بل في النفوس الجائعة إلى المعنى، المحرومة من العدالة، المعذّبة في صمتٍ طويل. إن أول رصاصة في كل عملية إرهابية، لا تُطلق من البندقية، بل من كلمةٍ جاهلة، من تربيةٍ مُعطوبة، من خطبةٍ صراخها أعلى من فكرها، من جهلٍ يتنكر في هيئة يقين مقدّس.
لكننا، في المقابل نحن نعيش القوة والمهابة حين نغادر هذا الواقع الأكثر ظلما وظلاما، وخوفا وإرهابا
. فالفكر، وإن بدا ضعيفًا أمام البارود، هو القوة الوحيدة القادرة على تغيير المصير. والإنسان، مهما سقط في القسوة، يبقى في جوهره كائنًا يبحث عن النور والعدل معا . فلنُشعل له سُبل الخروج، لا بالجُدران، بل بالنوافذ. لا بالعقوبات فقط، بل بالبدايات الجديدة، حيث يكون السؤال بداية الشفاء، والحوار بداية الحياة.
الظلام لا يُطرد بالعنف، بل بتراكم الشموع. وكل فكرة حرة، كل ضحكة طفل، كل معلم يُعلّم بالعقل لا بالغلظة والجفاء ، كل كاتب يواجه الدم بالحبر يصنع سلاما ، كل إنسان يرى في الآخر مرآةً لا عدوًّا — كل هؤلاء يصنعون مستقبلًا ينتصر فيه الإنسان لا الوحوش الضارية ، تعلو فيها قيم الحياة لا الموت والهلاك ، ترتفع فيها مبادىء الرحمة لا الكراهية والتطرف .
وفي النهاية، ليس الإرهاب لعنةً أبدية ، بل هو امتحان حضاري: إما أن نغرق في وحل العنف المضاد، أو نرتقي إلى درب الوعي والحرية والكرامة .
ليس السؤال “من نقتل؟”، بل “كيف نحيا، وكيف نعيش ،وكيف نبقى ؟”.
ففي هذه الأسئلة ، وحدها ، يكمن خلاص الإنسان من عبودية الظلام والظلم … إلى أفق النور والرحمة،والعدالة والأمن والأمان.
الألعاب النارية تزين سماء المهرة احتفالا بتحرير وادي حضرموت
الموجز – متابعات زينت الألعاب النارية سماء محافظة المهرة، مساء يوم الأربعاء، حيث أضاءت مدي…



