‫الرئيسية‬ مقالات المبدع الحضرمي صابر بامطرف …أصداء اسكتلندية (على صخور عدن القاحلة)
مقالات - 2025-09-06

المبدع الحضرمي صابر بامطرف …أصداء اسكتلندية (على صخور عدن القاحلة)

الموجز-صابر بامطرف-مجلة حوريت، العدد الثاني، الصفحة 84-88

في إحدى أمسيات إدنبرة الهادئة، المُغطاة بسماء رمادية، في أواخر عام 2021، أثناء تدربُّي لعرضٍ موسيقي لكلية الحقوق بجامعة إدنبرة، صادفتُ لأول مرة لحنًا تردد صداه في ذاكرتي دون وعي. كان من المفترض أن يكون الحفل موسيقيًا حزينًا، تأملًا موسيقيًا في الحرب والصراع والذاكرة، وقد رافقني موسيقيان اسكتلنديان: عازفة التشيلو كاثرين كامبل وعازف متعدد الآلات فيل ويستويل. اقترحت عليهما أن نختم العرض بلحنٍ اسكتلندي بسيط ومبهج يبعث البهجة في نفوس الجمهور، فاقترحا عليّ فورًا لحنًا اسكتلنديًا تقليديًا معروفًا يسمى “صخور عدن القاحلة“ The Barren Rocks of Aden.

لفتني الإسم للحظة، لكني لم أتوقف عنده كثيرًا. ظننتُ أنه ربما كان نطقًا خاطئًا لكلمة “إدن” Edin، اختصارًا لكلمة “إدنبرة” Edinburgh، أو ربما مجرد اسم قديم من التراث الاسكتلندي ذي طابع “غيلي” Gaelic يصعب عليّ تمييزه. خاصةً أني كنت حديث عهد باللكنة الاسكتلندية. وافقت على الفور، وبدأنا التدريبات، وأدّينا المقطوعة في نهاية الحفل. تفاعل الجمهور بفرح، مُصفّقين، حتى أن بعضهم رقص من مقاعدهم. بعد العرض، اقتربت مني عميدة كلية الحقوق، “كريستين بيل” Christine Bell، وكانت عازفة كمان أو بيانو في شبابها، لتُثني على الأداء، قائلة إن هذا اللحن تحديدًا يذكرها بطفولتها، وإنهم كانوا يغنونه كثيرًا بكلمات طفولية ومبهجة. في ذلك الوقت، ابتسمتُ ببساطة، ولم أكن أعلم حينها أن هذه المقطوعة كانت ترتبط بمدينةٍ وُلدتُ فيها على الضفة الأخرى من العالم، في عدن.

بعد أشهر، وبينما بدأتُ أتعمق أكثر في الموسيقا الاسكتلندية، بفضول مُؤلف موسيقي مُتحمسٍ لفهم محيطه الجديد، صادفتُ هذا الاسم مجددًا: “صخور عدن القاحلة” The Barren Rocks of Aden. لكن هذه المرة، لم يكن في قاعة موسيقية. كان هذا في السجلات التاريخية القديمة للمواقع العسكرية البريطانية، ومسيرات الأفواج، والحملات الاستعمارية. كانت أغنية المارش march المرحة هذه ذات الوزن 4/2 أحد الأصوات المميزة للوجود العسكري البريطاني في مسقط رأسي. فجأة، بدأ العنوان منطقيًا تمامًا ومثيرًا للاهتمام.

لحن له وطنان:
عدن كانت مستعمرة بريطانية لأكثر من 120 عامًا. موقعها الجغرافي الاستراتيجي جعل منها نقطة محورية في خارطة الإمبراطورية البريطانية، لكن، في الوقت نفسه، تضاريسها الجافة الصخرية جعلتها محطة شاقة للجنود القادمين من الوديان الخضراء في المرتفعات الاسكتلندية، كان التباين صارخًا بالنسبة لهم.

اللحن نفسه يتميز بإيقاعه السريع والمبهج، ما يجعله يبدو متناقضًا مع عنوانه “صخور عدن القاحلة”، كما يتم عزفه ايضًا في أيرلندا بإيقاع مختلف الى حدٍ ما، باسلوب رقصة البولكا Polka “رقصة بوهيمية” على آلة الكمنجة، فلا يوجد شيء قاحل موسيقيًا فيه. إلا أن هذه المفارقة ليست عبثية؛ فالألحان العسكرية غالبًا ما تُؤلف لا لتُرثى بها الأماكن أو لتعبر عن الحزن، بل لتعطي إيقاعًا للخطى، وتُبهج النفوس في وجه الغربة والمصاعب.

يُعتقد إن اللحن من تأليف عازف مزمار القربة الاسكتلندي James Mauchline “جيمس موكلين” من فرقة المرتفعات “78 سي فورث هايلاندرز”78th Seaforth Highlanders . ووفقًا لبعض المصادر، فقد أُلّف حوالي منتصف القرن التاسع عشر، كما تشير بعض المصادر الى أن موكلين لم يمنح اللحن اسمًا عند تأليفه، لكن في وقت لاحق، وأثناء تمركز وحدة من الفوج نفسه في عدن، قام عازف مزمار قربة آخر، Major Alexander Mackellar الرقيب الأول ألكسندر ماكيلا، بإعادة ترتيب المقطوعة ومنحها هذا العنوان، تعبيرًا عن فرحة الجنود بمغادرة ميناء عدن القاحل والحار.

ومع مرور الوقت، ارتبط اللحن ارتباطًا وثيقًا بالهوية العسكرية الاسكتلندية، حتى أنه أصبح المارش العسكري لفوج الحدود الاسكتلندية الخاص بالملك King’s Own Scottish Borderers. وبينما لم ينشأ اللحن نفسه في عدن، ولم يكن مستوحىً موسيقيًا منها، إلا أن ارتباط اسمه بها قد جعله جزءًا من ذاكرتها، سواء بالنسبة للجنود أو للمدينة نفسها..

الموسيقا في ظل الإمبراطورية:
لم تكن الموسيقى العسكرية مجرد زخرفة، بل كانت تؤدي دورًا وظيفيًا ونفسيًا وطقوسيًا في آنٍ واحد. خلال سنوات طوارئ عدن Aden Emergency في ستينيات القرن الماضي، وهي فترة اتسمت بمقاومة شرسة للاستعمار البريطاني، فرضت الألحان الاسكتلندية نفسها لتدوي في شوارع عدن بقيادة عازفي مزامير القربة الاسكتلنديين.

وفي الواقعة المشهورة، معركة كريتر Battle of Crater في الثالث من يوليو عام 1967، دخل العقيد “كولين ميتشل” Lt. Colonel Colin Mitchell الذي اشتهر بلقب “ميتش المجنون” Mad Mitch منطقة كريتر في عدن، التي كانت قد سقطت تحت سيطرة قوات المقاومة آنذاك، مصحوبًا بعازف القربة “كينيث روبسون” Major Kenneth Robson يعزف لحن “موني-موسك” Monymusk، وهو لحن تقليدي يُعزف قبل بدء الهجوم. ورغم اطلاق النار عليهم، وبينما كان الجنود يزحفون على الأرض، استمر روبسون في العزف رافعًا المعنويات في خضم الخطر، كما فعلت المزامير دائمًا في التاريخ العسكري الاسكتلندي. في صباح اليوم التالي، الرابع من يوليو، استيقظ سكان كريتر على أصوات الأبواق العسكرية المعروفة بـ”الإستيقاظ الطويل” Long Reveille تتبعها مقطوعات “جوني كوب، هل استيقظت بعد؟” Johnnie Cope, are Ye Wauking Yet? و اللحن الشهير “سكوتلاندا الشجاعة” Scotland the Brave وأصداء من “صخور عدن القاحلة”.

هكذا، تحوّل لحن “صخور عدن القاحلة” إلى ما يشبه الأثر السمعي الاستعماري، يتردد في شوارع مدينة كانت آنذاك تمزق القيود، بينما تصدح فيها ألحان جيش غريب، يلفظ أنفاسه الأخيرة.

عودة إلى حيث بدأت الحكاية:
كانت لحظة غريبة ومؤثرة، أن أجد نفسي أقف على مسرح في إدنبرة، أعزف مقطوعة اسكتلندية بإسم “صخور عدن القاحلة” من دون أن أُدرك أنها تشير إلى مدينتي التي وُلدتُ فيها، انها لحظة تلاقٍ لا شعوري تلخص قدرة الموسيقا على ربط الأماكن والأزمان بالأشخاص والشعوب، وبأحداث نعتقد أننا طويناها.

المقطوعة، التي نشأت في سياق عسكري امبراطوري، والمرجح بأنها حُوِّرَت من تراث شعبي في أقصى شمال الكرة أرضية “اسكتلندا”، اخذت تسميتها لاحقًا من مدينة في اقصى الكرة الارضية “عدن”، أصبحت اليوم، بذلك الإسم، جزءًا من ذاكرة موسيقية جماعية في اسكتلندا، تُؤدى في حفلات الزفاف والمناسبات الوطنية، وكثير من الاسكتلنديين لا يعلمون حتى انها ليست اسمًا من التراث الاسكتلندي، بل مدينة كان من مستعمراتهم ذات يوم.

تعكس كلمات الأغنية التي كتبها المغني الاسكتلندي “آندي ستيوارت” Andy Stewart عام ١٩٦٣ – وإن كانت أكثر حداثة من اللحن نفسه – نفس التوتر: الفخر العسكري، والحنين إلى الوطن، والحروب البعيدة.

ترجمة للأبيات:

‏Piper laddie here’s a song
يا عازف القِرْبة، إليك هذه الأغنية
‏to make the soldiers march along
لكي تجعل الجنود يسيرون على إيقاعها
‏Play it now and play it strong
اعزفها الآن، واعزفها بقوة
‏It’s the barren rocks of Aden
إنها صخور عدن القاحلة

‏Drummer laddie beat your drum
يا عازف الطبل، اضرب طَبلك
‏To let them know that we are come
لكي يعلموا أننا قد وصلنا
‏Friends will cheer and foes will run
الأصدقاء سيهتفون، والأعداء سيهربون
‏From the barren rocks of Aden
من صخور عدن القاحلة

‏Up the hill and down the glen
صعودًا إلى التل ونزولًا إلى الوادي
‏the stirring tune will sound again
سيُسمع هذا اللحن الحماسي من جديد
‏They will march the Highland men
سوف يسير رجال المرتفعات
‏To the barren rocks of Aden
نحو صخور عدن القاحلة

‏Bonnie lassie dinna cry
أيتها الفتاة الجميلة، لا تبكي
‏oh bonnie lassie dinna sigh
أيتها الجميلة، لا تتنهدي
‏but wish them luck as they go by
بل تمني لهم الحظ السعيد وهم يمرون
‏To the barren rocks of Aden
إلى صخور عدن القاحلة

‏Long the role of honour’s name
طال سجل الشرفاء من الأسماء
‏From Waterloo to Alamein
من ووترلو إلى العلمين
‏oh wish them all safe home again
تمني لهم جميعًا العودة سالمين
‏To the barren rocks of Aden
من صخور عدن القاحلة

‏Up the hill and down the glen
صعودًا إلى التل ونزولًا إلى الوادي
‏The stirring tune will sound again
سيُسمع هذا اللحن الحماسي من جديد
‏They will march the gallant men
سوف يسير الرجال الشجعان
‏To the barren rocks of Aden
نحو صخور عدن القاحلة

‏Oh did you see them marching there
هل رأيتهم يسيرون هناك؟
‏And did you stop and did you stare
وهل توقفت وحدّقت فيهم؟
‏And did you hear the famous sair?
وهل سمعت الصوت الشهير المؤلم؟
‏The barren rocks of Aden
صخور عدن القاحلة

‏Let it sound the world wide
دَعْه يُسمَع في أنحاء العالم
‏As they go marching side by side
وهم يسيرون جنبًا إلى جنب
‏To fill their country’s heart with pride
ليملؤوا قلب وطنهم بالفخر
‏The barren rocks of Aden
صخور عدن القاحلة

بالنسبة لي، كمؤلف موسيقي وُلد في عدن ويعيش اليوم في اسكتلندا، تحمل هذه القصة أبعادًا عميقة. هي ليست مجرد قصة استعمار ومُستعمَر، بل هي أيضًا حكاية تَركت فيها الموسيقا بصمتها في أماكن متباعدة، وكيف تنتقل الألحان، وكيف يختبئ التاريخ غالبًا في ألحان مألوفة، وعناوين منسية، تمامًا كما تم تبني ألحان المزامير الاسكتلندية، بما فيها “صخور عدن القاحلة” في التقاليد العسكرية خارج المملكة المتحدة بكثير، بما في ذلك الأردن، وعُمان، ومصر، وماليزيا وغيرها، حيث تتضمن الفرق العسكرية في الغالب تلك الألحان متأثرة بالوجود البريطاني، بل أصبحت “صخور عدن القاحلة” واحدة من أولى الألحان التي يتعلمها عازفو مزمار القربة. يظهر هذا كيف تتخطى الموسيقى حدود نشأتها سياسيًا، وتستمر في التطور عبر الحدود، كحوار صادق يعترف بما حدث، ويبحث عن جسور جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

باعوم .. عودة الرمز لا الحدث ::

الموجز – خاص – أ ماهر باوزير نشرنا قبل أكثر من أسبوعين خبراً حول العودة القريب…